العودة الى «بندر عباس»

المقاله تحت باب  في السياسة
في 
13/12/2010 06:00 AM
GMT



لن اتحدث هنا عن مكانة هذا الميناء الذي أنشأه البرتغاليون والهولنديون على الساحل الايراني من الخليج العربي قبل خمسمائة عام، ثم استعادته بلاد فارس وأطلقت عليه اسم الشاه عباس الصفوي. لكنني في دردشة حول المآلات مع صديق، حاولنا مساء امس نسيان الكهرباء التي انقطعت بسبب امطار اغرقت كل شيء في حينا السكني، ورحنا نقارن بين مصاعب التسعينات والازمات الراهنة، أيهما كان اصعب. حرنا في الجواب حتى صرت اسرد قصة من تلك الحقبة، وهو يقارن بواحدة راهنة، في محاولة لإصدار حكم مفاضلة عسيرة.

الحديث نقلنا من مخيم رفحاء للاجئين العراقيين في السعودية و"تهريب" الناس الى داخله او خارجه، ثم حكايات الذهاب مشيا على الاقدام نحو صحارى آسيا على تخوم هضبة التبت، ثم مغامرات عمال عراقيين في الميناء الايراني المذكور. يومذاك حاول بعض العراقيين العثور على طريقة غريبة للجوء الى دولة غربية. لم يكن لديهم مال ولا اوراق ثبوتية في ايران، فاندسوا اندساسا للعمل كعتالين في ميناء بندر عباس، يفرغون السفن ويملؤونها حتى يألفهم رجال الامن ومسؤولو الشحن، فتكون لديهم حرية كبيرة للحركة بين السفن. بعضهم اختار ان يختبئ داخل سفينة روسية، بعيدا في قعر المخازن. اما عدة الهروب فسهلة: مائة لتر من ماء الشرب، وصندوق بسكويت كبير، ومائة حبة "فاليوم" كي يبقى نائما على امل ان تنتهي "الكبسلة" هذه، في ميناء اوروبي ترسو عنده السفينة ويتيح له اللجوء كعراقي. بعض المحاولات نجحت منتهية بساحل ايطالي بعد 5 شهور من مغادرة بندر عباس. محاولات اخرى كتب لها الفشل حيث توفي المختبئون داخل المخازن بسبب طول فترة "خزنهم". اما المأساة الاكبر فكانت من نصيب شاب، قرر بعد شهور من الاختباء ان يظهر على سطح السفينة حيث نفدت حبوبه المهدئة واستعصى عليه المنام، لكنه فوجئ ان السفينة عادت الى ايران ورست في بندر عباس. اعتقله رجال الامن وعاد مشردا في شوارع شيراز واصفهان.

ومثل خيبات الامل هذه كانت تلاحق نوعا آخر من المغامرين. بلغ اليأس ببعض الشباب المفلسين حد ان يقرروا الذهاب مشيا باتجاه باكستان، قاطعين الصحراء البلوشية على اقدامهم. يحملون ماء وبعض البسكويت ويمشون شهورا، يتخللها لقاء مع قوافل تنقل المخدرات، ومضارب بدو من كل الاجناس الباكستانية. بعضهم افلح في الوصول الى اسلام أباد حيث يوجد مكتب للامم المتحدة يرتب لهم لجوءا نحو الغرب. اما احد معارفنا فقد ظل يمشي عامين كاملين يقطعها باستراحة في هذه البلدة او تلك، حتى وقع "اسيرا" في وزيرستان بيد مسلحي القاعدة. لكنه يقول ان هؤلاء تعاطفوا معه حين اكد لهم انه عراقي. احدهم عانقه وقال "انت ابن الابطال"! ظل الرجل مقيما لديهم في "احسن ضيافة" لكن الحظ لم يحالفه طويلا واجتاحت اميركا افغانستان، فهرب بجلده عائدا بأصعب الطرق الى خراسان، ليبدأ رحلة انتظار جديدة. احيانا يخيل لي ان الرجل "يهذي" لأنه يتحدث عن شباب آخرين اخذهم المشي الى "تخوم جبل ايفرست" فأعادتهم القوات النيبالية "بالسيارات" الى كردستان العراق. وحين يتحدث عن هذا اخشى ان اقوم بتكذيبه، فشعب عاش تلك الحقبة، كان مستعدا لخوض مليون مغامرة مجنونة يشغل بها نفسه عن مرض اليأس.

بعض اليائسين الكبار، كان يغامر في عبور الحدود الايرانية الى العراق ثم يتجه نحو "عرعر" ليسافر مع المهربين الى مخيم رفحاء السعودي. يقول انه يتسلل ليزور اصدقاءه المقيمين هناك. ثم يقفل عائدا عبر العراق الى مخيم اللاجئين في ديزفول. كان يتجول دون اي هدف، لأنه مل من الانتظار.

لكل عراقي عشرات القصص التي لم تألفها الشعوب الطبيعية. أناسنا ضربوا اغرب امثلة الصبر والجلادة طيلة عقود. ولكن هل اصبح حالنا افضل اليوم؟

الصديق الذي شاركني المقارنة، يعتقد ان العراق يختبئ اليوم في مخزن لاحدى تلك السفن الكبيرة، يبتلع "الكبسول" وينام برجاء ان يصحو على ميناء جميل. اما انا فأخشى ان يستيقظ هذا العراق مثل صاحبنا المذكور اعلاه، ليجد نفسه قد عاد ثانية الى ميناء بندر عباس!